القانون التنظيمي للحق في الإضراب: من الاعتراف الدستوري إلى التقنين التشريعي
يعتبر تكريس الحق في الإضراب من أبرز المحطات في مسار تطور الحريات العامة بالمغرب. فمنذ أول دستور للمملكة سنة 1962، تم التنصيص على هذا الحق باعتباره جزءًا من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما وضع المغرب في مصاف الدول السباقة إلى الاعتراف الدستوري بهذا الحق، حتى قبل اعتماد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1966، الذي نص صراحة على “الحق في الإضراب” باعتباره من الحقوق المعترف بها دوليًا.
ومع توالي الدساتير المغربية، ظل الحق في الإضراب حاضرًا بشكل دائم، حيث أدرج في دستور 1962 و1970 ضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ثم جرى تضمينه في باب “المبادئ الأساسية” في دساتير 1972 و1992 و1996. أما دستور 2011 فقد منحه مكانة خاصة في الباب الثاني المتعلق بـ”الحريات والحقوق الأساسية”، من خلال الفصل 29 الذي أكد على ضمان هذا الحق إلى جانب حرية الاجتماع، والتجمهر، والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي، مع الإحالة على قانون تنظيمي يحدد شروط وكيفيات ممارسته.
ورغم هذا الاعتراف الدستوري المتواصل، ظل غياب القانون التنظيمي الذي يفصل في تفاصيل وشروط ممارسة هذا الحق يشكل فراغًا قانونيًا دام لعقود، لم يمنع النقابات والتنظيمات المهنية من ممارسة الإضراب والاحتجاج، اعتمادًا على الاجتهادات القضائية، والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، وأدوار النقابات التي يعترف بها الدستور والقانون، خاصة في تدبير عدد من النزاعات الاجتماعية.
وفي ظل الحاجة الملحة لتقنين هذا الحق، شدد الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة في 9 أكتوبر 2015، على أهمية إصدار القانون التنظيمي للإضراب، واصفًا إياه بأنه من “مشاريع القوانين شديدة الأهمية والحساسية”. كما أكد جلالة الملك على ضرورة بلورة هذا المشروع في إطار من التشاور الواسع وروح التوافق، بشكل يضمن حقوق الأجراء، ويحمي مصالح أرباب العمل، ويراعي مصلحة الوطن ككل.
وبعد سنوات من الانتظار، صدر الظهير الشريف رقم 1.25.34 المؤرخ في 17 رمضان 1446 (18 مارس 2025)، القاضي بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 97.15 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب.
تحميل قانون الإضراب الجديد في المغرب
أهم مضامين القانون التنظيمي رقم 97.15
ينطلق هذا القانون من مرتكزات دستورية واضحة، مستندًا بالأساس إلى التصدير وفصول 8 و29 و35 و154 من الدستور، التي تكرس مبادئ مثل التضامن، الحرية، الكرامة، المساواة، والعدالة الاجتماعية. ومن بين أهم المبادئ التي يرتكز عليها القانون:
- ضمان الحقوق المتوازنة: القانون يسعى لتحقيق توازن دقيق بين حقوق العمال ومصالح أرباب العمل، في إطار يضمن استمرار النشاط الاقتصادي والخدمات العمومية.
- الدور المحوري للنقابات: يعترف القانون بالأهمية الاستراتيجية للنقابات المهنية في الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية للفئات التي تمثلها، ويشجع على المفاوضة الجماعية وإبرام اتفاقيات الشغل الجماعية.
- احترام الحريات والضوابط: يُكرّس القانون حرية العمل والمبادرة الخاصة، ويمنع كل أشكال التمييز أو الإقصاء، ويشترط احترام القوانين المتعلقة بالشغل والسلامة المهنية.
- الحفاظ على النظام العام: يولي القانون أهمية خاصة لاستمرار المرافق العمومية في تقديم خدماتها، مع التأكيد على احترام النظام والأمن العامين.
- الالتزام بالوساطة والحوار: يشجع القانون على التسوية السلمية لنزاعات الشغل، ويعتبر الوساطة من الآليات الأساسية لمعالجة الخلافات قبل اللجوء إلى الإضراب.
يمثل صدور القانون التنظيمي المتعلق بالحق في الإضراب خطوة متقدمة في مسار استكمال البناء التشريعي بالمغرب، ويعكس إرادة وطنية في تنظيم هذا الحق بما يضمن ممارسته في إطار من المسؤولية والاحترام المتبادل. فبين الإقرار الدستوري والواقع العملي، يُعد هذا القانون أداة أساسية لترسيخ ثقافة التوازن بين الحقوق والواجبات، ويشكل مرجعًا قانونيًا يقطع مع الفراغ السابق، ويمنح كل الأطراف الفاعلة إطارًا واضحًا لتنظيم علاقات الشغل
اترك تعليقاً